Thursday, July 22, 2004

لِمن الحقّ ؟


منذ نعومة أظافري ، ومثل كلّ أطفال العالم ، تعلّمت رسم الحدود ... حدودٌ بيني وبين الكلّ ، ففرزت الأشياء ، والناس ، والقرى ، والمباني ، ووضعت الحواجز لحماية حقّي ... وعلى الكلّ وضعت لائحةً ، تقول : هذا لي ...
وهذه الحدود لم تكن لأملاكي وحدها ، بل لكلّ إنسانٍ حدود ، وهناك حتى حدودٌ بين الحدود ... ويقف القانون حارساً على كلّ الأبواب ، فإن تعدّى واحدٌ على الآخر ، قام الحارس ليرفع واحداً ، ويضع ثانياً ... فتارةً يرتفع الوضيع ، وتارةً يتّضع الرفيع ... وهكذا نقضي حياتنا طلوعاً ونزولاً ، فرحاً وحزناً ، وهذا طبعاً إن أنصف الحارس ... فلمن الحقّ ؟...
وللحال ، قادتني نفسي إلى إحدى الأراضي التي امتلكتها أبّاً عن جد ... وهناك وجدتها واقفةً في وسط زهرةٍ من أزهاري ... فحملتها ، وقلت : ليشرق النور ...
فردّت :على الأرض ... الواحدة ، وليس المقسّمة ...
قلت :وما الفرق ؟ أليست القسمة مشروعة ؟...
فقالت :ما هو هذا الحقّ ، ولماذا يدّعي الناس بضرورة وجوده وأهميّته ، ومكانته قبل كلّ الأشياء ... أليسوا هم المتبجّحين في مقت الأنانيّة ؟... أما علمت أنّ الحقّ هو الأنانيّة ؟... فلماذا التخفّي خلف الكلمات والمعاني ؟!...لكنّي لست ههنا لألوم شخصاً ، أو جماعةً ... بل ألوم الكلّ على ما فعلوه بالجميع ...هذا الحقّ هو مثلٌ صغير على الأبنية الفاسدة المختلّة ، التي بنيتموها في هذا المجتمع ، فجلس كلّ منكم في خليّته ، ليفصّل الأمور على مقياسه ... فصار كلّ ما لمصلحتكم حقّاً ... وهذا البناء الزائف ، صار محكمةً حتى لخالق السماوات والأرض ... فتتطاولون عليه ، رافضين كلّ عطيّة ، متكبّرين على كلّ نعمة ، متذمّرين على كلّ تجربة ... وكم صرختم في وجهه ، وكفرتم به ، لتقولوا أنّ ما أخذه منكم ، أو ما لم يعطه لكم هو من حقّكم ... وبما أنّكم لستم ممّن لهم القدرة على التحصيل منه ، سقطّم في دوامةٍ من الحزن والألم ، وتحوّل الربّ عندكم إلى ظالمٍ منتقم ، لا يعرف كيف يوزّع العطايا ، فيرسل دوماً لمن ليس لهم أسنان ...أما عرفتم يوماً أنّ العطايا ليست حقّاً لأحد ، وليست أجراً يتقاضاه أحد ، وليست ملكاً لأيّ أحد ...بل هي كلّها من الّله تنبع ، توهب لشخصٍ ، لا لتكون له وحده ، بل للكلّ ... فيخدم بها الكلّ ، فاللّه ...بالتالي لا حقّ لأحد ...نعم ! نعم ، لا حقّ لأحد ، لا على أحدٍ آخر ، ولا على اللّه ... لأنّ من يطالب بحقٍ ، يجب أن يكون حرّاً ... فمن منكم يمتلك نفسه ؟
ومع ذلك فأنتم تقتلون لأجله ، لا بل وتموتون عنه ...وهذا عالمكم ، القائم على "القُّل لي كم معك أقل لك من أنت" ، صارت فيه العطايا من إنسانٍ لآخر ، سواءً للقول للّه ، أعطيت أخي ألوفاً فأعطني الملايين ، أو ليرفع على الأكفّ بقدر ما تبرّع ...
قد لا يكون فات الأوان عليك ، وعلى من هم من جيلك ، رغم أنّ الإعوجاج في نفوسكم مرّت عليه سنون طويلة من التحجّر بالمادّة ... لكن إن ربّيت في يومٍ من الأيّام إبناً ، فعلّمه كيف يتجرّد من حقوقه ، وحدوده ، كي يحصل على الحقّ الوحيد في هذا الوجود ، وهو ان يحبّ الجميع ، فيحبّه اللّه ...
فغاصت في يديّ اللتين ارتفعتا ، ولم تنزلا حتى هدمت كلّ أصنامي ، وأسواري ...

No comments: