ولّدت الوحدة في رأسي أوهاماً ومخاوف كثيرة ... ولياليّ أفرخت فيها الكوابيس ، ونمت بسرعةٍ كبيرة ، فلم يعد رأسي يسع الآلام ، ولا قلبي يحتمل الأحزان ...
فماذا فعلت ؟ ووراء ماذا انجررت ؟ ...
من يوقفني ؟ من يمنعني من الغرق غيرك يا الّله؟...
لكنّ الأوقات يختارها الّله، ولا نعرفها نحن ...
فبعد أيّامٍ كثيرة ، وبينما كنت نائماً ، سمعت صوتاً يناديني من بستاني . خرجت راكضاً من قوقعتي تجاهه ، وكنت كلّما اقتربت أكثر فأكثر منه أحسّ بعطشٍ غريب ، يزداد شيئاً فشيئاً ، حتى صار لا يطاق ... فوقفت في وسطه تائهاً ، كّانّي ما عرفته من قبل !... وكان الجفاف قرّح أحشائي ...
وفي غمرة هذا الضياع والعذاب ، انطلق صوتٌ ناعمٌ غريب من وردةٍ بيضاء ، فتلفّت يمنةً وشمالاًً ، لكنّي لم أجد شيئاً !... ثم تردّد الصوت نفسه فاقتربت منها...
ويا لدهشتي! ماذا وجدت؟...قطرة ندىً تبرق على ضوء شمس الصباح ، متدليّةً كعنقود عنب من حبّة واحدة على طرف الورقة ...
قطرة ندىً لعطشان !...
حملتها متلهفاً على كفّي ... فما إن لامست جسمي حتى انطفأ ذاك العطش ، وصارت قطرة الندى أمامي طفلةً ، صاحبة جمالٍ ملائكي ...
وكانت أسرابٌ من الفراشات ، بأسراب ألوانٍ بهيّة ، تحطّ على شعرها لتشرب من رحيقها ... ولم تقل كلمةً ، إلّا ببسمةٍ من شفاهها الصغيرة ...
ثم رفعت يديها صوب الشمس ، فرفرفت بخاراً ، طوّقني من كل جهة ، فتشرّبها جسدي وروحي ...
وفي غمرة كلّ هذا ، كنت معقود اللسان ...
ألمي انهار ، وحزني انكسرت شوكته ، وأمّا دموعي فتحالفت مع الفرح والسعادة ...
فوقفت صامتاً أمام الوردة التي احتضنتها على أوراقها ...
فقالت الوردة :ألا تريد أن تشكر الذي أرسلها إليك ، من يرسلها إليّ في كلّ يوم ؟.
فقلت :أشكر الّله في كلّ حين ، لأنّه لم يتركنا للألم والموت ...
قالت :هو خلق الأرض وكلّ ما عليها من أحياء ، كلّ بقوّته وضعفه. ولكلّ داءٍ أوجد دواءً ...
قلت :وهي دوائي ؟...
قالت :هي دوائي ودواؤك، ودواء كلّ سكّان الحقول والغابات والصحاري ...هل سمعت الصمت يوماً ؟...
هو صوتها...
هل رأيت الشفافيّة يوماً ؟
هي جسمها...
هل ذقت الحلاوة يوماً ؟
هي طعمها...
هل لمست الطهارة يوماً ؟
هي قلبها...هل عرفت البراءة يوماً ؟
هي روحها ... إ
نّها قوّةٌ ووداعة ، مسكوبة في أنوثة ، مباركةٌ من الّله لدى نزولها إلى الأرض ...
هي حكيمة... ومع كلّ ما لها ، وفيها ، فهي الصغرى في الملكوت !...
هي ترى ببصيرتها ، فلا تنظر إلى تاجي كما يفعل الناس ، بل تعرف قلبي ...
فقلت مهمهماً :إنّي قد رأيتها قبلاً ، لكنّي لا أذكر أين !...
قالت : أنت من أين جئت ؟...
فقلت :من الّله حملتني الغيوم ، ورمتني فوق الأرض ، فغُصت فيها ، ثم تفجّرت نبعاً ! ...
ثم نظرت إلى الغيوم قائلةً بحنان :هناك التقيتما ... فهي أيضاً حملتها الغيوم من البحر ، ورمتها على الأرض ... لكنّها خفيفةٌ ، صغيرة ... لا تستطيع الغوص في الأعماق ... فحوّلتها الشمس بخاراً في النهار ، لتعود وتظهر في الليل كي تكون ابنة النور الخادمة في الظلام ...
نعم ، هناك التقيتما ... في الغيوم التقيتما ...
فقلت : وما الفرق بين مائي ، والندى ؟...
فقالت : ماؤك يدخل أصولي ، ويسير في عروقي ، فينمّيني ويقوّيني ... أمّا ماؤها فمسحةٌ تشفي الجراح ، التي يخلّفها النهار عندما تحطّ عليّ في الليل ...
أنت طلبت سدّ ما ينقصك ، فانهل منها ، لأنّها من الّله أتت لأجلك ...
قلت : كيف أجدها غداً لأنهل منها ؟...
فقالت :سر كما يقودك تساؤل قلبك ، هناك تجدها ... وحيث تكون ، كلّمها ، فهي تعرف أسرار السماء ... وعندما تنتهي ، ضعها في مجاريك ...
واعلم أنّك في كلّ يومٍ ستقطف واحدةً من الأرض وتأخذها ... كلٌّ منها تحمل لك درساً مختلفاً ، وأنت تحملها بها فتصل بهم وبك إلى البحر ... لا هي دونك ، ولا أنت دونها ...
فقلت :إذا كنت سأجمع كلّ القطرات ، متى أصل البحر ؟... كم سيطول عمري لأفعل ذلك ؟...قالت :وهل للمؤمنين أعمار ؟...